الأحد، 29 نوفمبر 2009

مقومات نشأة حضارات الأمم (1/2)..

"الجزء الأول"

عند قراءتنا لتاريخ حضارات الأمم الفانية والحاضرة، نجد بوضوح أن كل أمة منها ارتكزت إلى على ثلاث عوامل رئيسية في نشأة حضارتها وهي المقومات المادية والأيدلوجية عملية ومن ثم ظهور القيادة المخلصة والحازمة التي تجمع العامة على الأيدلوجية المشتركة وتستثمر المقومات المادية لخدمة الغالبية العظمى من الشعب أكثر من الاستئثار بها للخاصة القليلة..

ويبسط علماء الاجتماع المعاصرين المقومات المادية بثلاث أخرى أولاها الطاقة البشرية وهي تواجد أعداد من البشر يجمعهم التاريخ (الأصول و اللغة أو أحداث مشتركة) أو الجغرافيا (سواء كانت مادية كطبيعة وتضاريس أو حدود بقايا دول منحلة) ومن خلال أيدلوجية مشتركة. على شرط أن يكون تعداد هذا الشعب مضاهي للحضارات المتزامنة خلال نشوء هذه الحضارة.
وثاني المقومات المادية هو الثروات الطبيعية التي تمول نشأة هذه الحضارة لتمدها بالمال والغذاء الكافي لأفراد الشعب مما يحول دون انشغالهم في تأمينه عن القيام بنهضة الأمة. وثالثها أضيف لاحقاً هو وجود رأس المال الذي يطلق شرارة استثمار الثروات الكامنة في الأرض.

أما الأيدلوجية العملية فيمكن اختصارها في كونها نظرة فكرية شاملة يجتمع الغالبية العظمى من الشعب في الإيمان بها وإتباعها. ووصف "العملية" هنا أساسي في تكوين حضارة منبثقة على ضوءها حيث لا يمكن للأيدلوجيات المتطرفة أن تقود حضارة لمدة طويلة.

وعندما نعدد أكبر الحضارات في التاريخ المعروف يجب أن نبدأ بالحضارة السومرية وبناتها البابلية والآشورية. لنجد أن هذه الحضارات الثلاث نشأت في بلاد الرافدين حيث المياه العذبة والأرض الخصبة وهي الثروات الطبيعية الأهم في زمن بداية العلم. كما قدر عدد البشر في تلك المنطقة زمن الحضارة السومرية, والتي تعد من أكثر الكثافة سكانياً في الأرض المعروفة, ما يعادل مئات الآلاف القليلة قد لا تصل للمليون الأوحد. حيث يقدر عدد السكان في 12 مدينة رئيسية 24 ألف نسمة في كل منها. ويمكننا أن نستنبط بعض أوجه أيدلوجيتهم من آثارهم القليلة المتبقية ومن خلال المعابد التي كانت محور الحياة العامة بالإضافة إلى الأخلاق والقوانين التي وجدناها في شرائع قانون حمورابي الذي يعده بعض المختصون من القوانين التي تنبأ بأيدلوجية حضارة متقدمة بالنسبة لزمنها. أما القيادة المخلصة فيكفينا الاقتباس
التالي:
"وفي ذلك الوقت نادتني الآلهة، أنا حمورابي، الخادم الذي سررت من أعماله، .... والذي كان عوناً لشعبه في الشدائد، .... والذي أفاء عليه الثروة والوفرة....، أن أمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء وأنشر النور في الأرض، وأرعى مصالح الخلق"
قانون حمورابي – المقدس


ولو طبقنا نفس المقياس لوجدنا الحضارات العظيمة الأخرى لا تحيد كثيراً عن هذه الثوابت. فالحضارة المصرية الفرعونية نشأت بين أحضان النيل الخصبة وكان الفراعنة المؤلهين قواد منهم الحكماء مثل (مينيس) الذي جمع أقطار البلاد وأخناتون "الملك المارق" الذي دعا إلى نبذ الآلهة وعبادة رب أوحد ومنهم دون ذلك وبتعداد سكاني كبير نسبياً تراكم عبر العصور قد يدلل عليه عمل 100 ألف رجل في بناء بعض الأهرام لمدة عشرين سنة. ولتدليل أيدلوجياً يقول أحد ملوك الفراعنة أمينمحيت:
"كنت رجلاً زرع البذور وأحب إله الحصاد
وحياتي في النيل وكل وديانه،
ولم يكن في أيامي جائع ولا ظمآن،
وعاش الناس في سلام بفضل ما عملت وتحدثوا عني".

ثم الحضارة الهندية الأولى التي كانت مهد كتب الفيدا الداعية للتوحيد وفي أرض فيها كل ما يتمنى البشر من المياه العذبة والأراضي الخصبة والمعادن ولم ينقصها قواد عظماء مثل تشاندرا قوبتا موريا. ولنقتبس من تراث الهند البعيدة نقلا عن موسوعة قصة الحضارة:
"أسمى الحقائق هي هذه: الله كائن في الأشياء كلها، إنها صوره الكثيرة، ليس وراء هذه الكائنات إله آخر تبحث عنه... إننا نريد عقيدة دينية تعمل على تكوين الإنسان... اطرح هذه التصرفات المنهكة للقوى وكن قوياً... ومدى الخمسين عاماً المقبلة... لنمح كل ما عدا ذلك من آلهة من صفحات أذهاننا، جنسنا البشري هو الإله الوحيد اليقظان، يداه في كل مكامن، قدماه في كل مكان، أذناه في كل مكان، إنه يشمل كل شيء... إن أولى العبادات كلها هي عبادة من حولنا... ليس يعبد الله إلا من يخدم سائر الكائنات جميعاً"
فيفيدكاناندا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق