الجمعة، 24 أغسطس 2012

الموت البطيء


تخيلت يوماً مدينة جميع سكانها حكماء.  خضراء الأرض بيضاء السماء. نظيفة كبيت السلطان،  هادئة كصباح الجمعة. مدينة سادها وتسيدها السلام. لا شقاق ولا نفاق. لا فساد يأكل به العالم حق الغافل. لا سادة ولا قطيع. الكل مستقل بذاته يدرك دوره دون إشراف. لا قانون يفرض،  لأن الفرض لم يكن ليكون لولا قصر الناظرين.

كان زمنهم بلا ملامح تميزه. أصبح المال بلا قيمة لأنه لم يكن ليجلب لهم السعادة كما يظن. بعد فترة،  شح الكلام بينهم حتى ندر ثم اندثر. غدت لغتهم نظرات العيون وتعابير الوجه. خفت شغفهم بالمستقبل حين وعوا الماضي. رتابة حياتهم لم يكسرها شهوات حيوانية أشبعوها ولم يشبعوها.

خف الحياء رويداً رويداً.  لم الحياء وقد فهموا وتفهموا حاجاتهم ورغباتهم وشهواتهم!! فهموا أنهم جميعاً بشر له نفس الملامح من الداخل ولو إختلف خارجهم. عدم إكتراثهم لتمايز الوجوه والأجسام عظم حتى أصبحت عيونهم لا ترى إختلاف ملامحهم. أصبحوا جميعاً متشابهين. نسخ كربونية بل آلية أنتجها مصنع بشري. كان إنسانهم وإنسانيتهم تضمحل كلما تقدم زمانهم. فلا حاجة من جديد للتمييز بينهم فهم متماثلين من جميع الوجوه.

كانوا مجتمع فأصبحوا مجمع.. تقدم العمر بأقدمهم، ولم يكترث كثيراً مجمعهم لأنها نواميس الكون. توفوا واحد بعد الأخر.. لم يكن ليفاجأ أحداً منهم،  فقد كانوا يعون ذلك من قبل. الحزن أصبح سخيفاً لأنه حالة عقلية لا تتميز كثيراً عن ما يسمى "سعادة". لا حزن ولا سعادة.. لا غضب ولا ضحك.. لا أمل يوقد رغبة الحياة..

أصبح لا معنى للحكمة لأن لا حكمة تميزها. وجدوا الحكمة أيضاً نسبية!! لم يكن هناك تفاوت،  فأصبحت حكمة يومهم سطحية. أصبحت الفلسفة مكررة لا تحمل معاني جديدة. فقط إعادة صياغة لما يعرفه الجميع.

تملكتهم حكمتهم فأوفتهم حقوقهم،  فأوفوها حقها ليروا "الموت البطيء" أحكم المآل..

الجمعة، 10 أغسطس 2012

كبريت الشهرة في مسرح العرائس..

من الطبيعي استمتاعنا بدراما التغريد بهذا الشغف. فالتويتر فتح أبواب العقل المغلقة لعقود. لذا أرى أن سيكون التغيير كبير والخطوط المتجاوزة من الصعب الرجوع لها حتى لو أردنا. لكن البعض انجرفوا مع تيار الشهرة بدون أطواق نجاة. أنشتهم سكرة الأضواء فتمادوا ولم ينظروا إلى اليابسة من وراءهم.

ضحاياها، تقتات شهرتهم على الشذوذ الفكري من خلال نزوات مثل "سورة التفاح" أو حصر الجنة بأهله ومن والاهم. شهرة البعض منهم مصطنعة عن طريق الإعلام الزائف المدفوع وتغذى بالشطحات الساخرة. وأخرون لم يملكوا المادة فختاروا حرق أنفسهم ليضيئوها. لذا ولابد أن تكون نهايتهم كارثية على المستوى الشخصي.

عدم تزامن تنامي الحكمة الفردية مع قوة الضوء المسلط يحرق ولو بعد حين. فالأيدلوجيات ماكرة ناكرة لا رأفة فيما يعوق تقدمها. لذا يكون بعض فرسانها دمى في مسرح العرائس. يأتي يوماً ويرموا للنسيان ويستعاض عنهم بدمى جديدة. فالجمهور يهوى التغيير والمهم من هو خلف الكواليس لا من يحرك بخيوطهم الخفية.

أتفهم أن مثل هذه الفكرة شاذة في نظر مريدي الأيدلوجية التابعة لهم ولأمثالهم. وأتفهم عدم تفهمهم لأنهم يسمعون بآذان غيرهم. ولن يفيد النقاش محاجتهم بالنظر لكثرة إعتذاراتهم بعد كل زفرة وكأنه فكر آلي متعارف عليه. ولكن لقننا التاريخ أن الشهرة بدون حكمة كافية، مثل شعلة كبريت عود الثقاب.. "متوهجة وآنية وتحرق العود بسرعة"..

الخميس، 9 أغسطس 2012

عزيزتي الخطوط السعودية.. لماذا المكابرة!؟

تطالعنا الصحف والشبكات الإجتماعية بشكل يومي تقريبا بخبر يوجه إنتقاد مبرر للخطوط السعودية. وجبة متعفنة٫ تأخير رحلات بلا مبالاة٫ جلافة تعامل٫ لحوم حمير وغيرها كثير.. إنتقادات وشكاوى لسنوات دون أي تحسن ملحوظ. إصرار المسئولين على النهوض بها من خلال التخصيص وتغيير بعض القيادات أعتبره فقط الفعل المحمود الوحيد الذي يستحق التقدير.

لكن فاقد الشيء لا يعطيه. فالخطوط السعودية مؤسسة متهالكة فعل بها الزمن فعلته فرسم تجاعيد دائمة لا يمكن للعطار أن يصلحها. صناعة الطيران خدمية تتطلب مؤهلات لا نملكها كشعب يتعالى عن خدمة بعضه فما بالك بالأخرين!! والخطوط السعودية بالذات من بين باقي المؤسسات الوطنية٫ كانت قد أسلمت لإدارات فسدت خلال عشرات السنين فاصبح من غير الممكن تقويمها. فالفساد كالسرطان٫ لن تجدي مقاومته الكثير من النجاح.

كدولة ناشئة تخوض معترك التسابق الإقتصادية مع وجود جبهات داخلية مقلقة كضعف التعليم وصراع أيدلوجي عقيم تعيق كثير من المقومات التقدمية٫ نحتاج لتوفير كل جهد ولو كان ثانويا حتى يمكن لنا النهوض من الكبوات المتتالية. لكن حصر النقل الجوي لمؤسسة استشرى الفساد في دواخلها وظهر على سطحها يزيد الطين بلة ويجردنا من وسيلة حيوية. اصرارنا على تقويمها هو عناد عاطفي أرعن لا يزيدنا إلا تخلفا. فهي بالنهاية وسيلة وليست غاية بحد ذاتها.
إحصاءات تراجع تصنيف الخطوط السعودية يثبت لنا قبل غيرنا أن لا حياة للمناداة بانتشالها من حضيض القاع. بعد كونها في المراكز المتقدمة قبل ثلاثين سنة٫ ها هي تصنف في المؤخرة متنازلة للخطوط التجارية الإقتصادية بكل إذعان. حيث غدى تخفيض الأسعار سلاحها الوحيد الذي تلجأ له حتى تحافظ على بعض ماء وجها المهدر. فأصبحت الخسائر حتمية لعدم توافق المقومات مع الخط الاستراتيجي المتبع.

أليس من الأجدى لنا فتح باب المنافسة على مصراعيه لكل من يستطيع توفير هذه الوسيلة الحيوية لنتسلح بهم لغاياتنا الأسمى!؟ لنتصور أن تخدم الإماراتية أو القطرية أو حتى الكاثي باسفيك حاجتنا من الرياض وجدة لباقي مدن العالم الرئيسة مباشرة دون المرور بمحطاتهم الوسيطة لتقليل التكلفة والجهد. لماذا لا ندع الخطوط السعودية تموت بسلام حتى لا تعيقنا!؟ ألا يكون ذلك أكثر واقعية!؟ أم أننا نجيد العناد رغم واقع خسارتنا!؟

فالنهاية٫ أرى أن رعونة المقاومة فعل أحمق لمريض يموت ولا يقبل واقعه. فلا يمكن لجسد هزيل أن ينافس عدائي سباقات السرعة. فالواقعية تجبرنا أن نسلم هذه الجولة لنسلم على جولات أخرى هي أهم في خضم سعينا للرقي بواقعنا. فلماذا المكابرة!؟

الاثنين، 6 أغسطس 2012

بيت الحكمة


يحكى أن رجلا بلغ من الحكمة مبلغ ما أمضى من السنين الطوال.  رزق بأربع أبناء على مدى أعوام متباعدة متدرجة. تمثلوا بحكمة أبيهم ونضوجها المرحلي. فتفاوتت طرقهم بتفاوت دعوتهم. 

كان الأول الأقرب لقلب أبيهم.  كان همه ومراده وعزه وعزوته. كل ما عداه يهون عنده وكل ما يخالف سمو مستقبله ملعون ومطرد من فكره. لكنه أبي عنيد.  زامن ترعرع حكمة أبيه فلم يسلم له طوعاً. تصادم معه فكان الشقاق أغلب مآل النزاع. بعد سنين من الكر والفر،  وصلوا لطريق مسدود. فقد تكسرت أغلب مجاديف السلم فلزم تغيير العتاد من العناد. 

كان الثاني هضبة ليس بها كثير من الجبال.  مسالم في العقل أسد بالكر. ينطق بما يفكر ولا يضمر إلا عند القتال.  انقاد بارتياح لحكمة أبيه إلا قليل لا يذكر.  لم يستفهم إلا لكي يفهم. لم يجادله إن نطق أو غضب. فكان ينصاع إذا أمر ويأخذ بأفضل الأمرين لأبيه إذا خير. 

إشتد أزر الأب بولده البار.  فصار حجته على بكره. فأخذ يجادله من جديد ولكن بعزم ودعم. بدأ البكر بتنازلات لم تكن كافية لأن يكون تحت مظلة حكمة أبيه. ولكن الأب إزداد حكمة فوق حكمة فاستمر بعزيمة محب شديد البأس وأكثر قوة مع مرور الزمن. 
الثالث كان ذو فكر مختلط. لم يحضر بداية عراك الكبير ووعى على مفخرة توافق البار. كان يبحث عن رضى الأب ايماناً أحياناً ومجاراة وغايات لأخرى. كانت كثرته من قوته الجسدية فمال بالكفة لما ليس للبكر طاقة.
سلم البكر لرؤية خطها أباه بعد أن أعيته كرات حكمة كانت قد غابت عن استيعابه. فرح الأب كفرح من وجد إبنه حي بعد سنين من الضياع. وعى البكر حكمة أباه حين إنتشرت وبات من حولهم يقدرون بيت الحكمة وأهله. عاشوا زمن لم يطل حتى ودعهم أباهم. 

رغم عدله بين أبناءه في حياته،  فقد أوصى بزمام الحكمة للبكر الحبيب. كعادته،  لم يجادل البار سوى ساعة من نهار. تنازعت الرغبات بالمختلط حتى ظهرت على شفاهه. يثور حين ويجادل حين. ولكن البكريين أقوى عزيمة رغم أنه أقوى منهما جسدا. فلم يك رضوخه سوى مسألة وقت عصيب.

ولد الرابع بعد وفاة الحكيم بقليل. وترعرع يستسقي الحكمة من أخواه البكريين ونزر يسير من المختلط. نظر لهم بنظرة الابن لوالده دون تحدي في منشئ الحكمة لأن مصدرها أباه الذي لم يراه. فكانت القداسة لها ولمن يحملها. حمل هم فهمها وصيانتها وتحقيقها وتأصيلها. وحمل إخوانه رعايتها فهي نورهم الذي يضيئ لهم دروبهم بين بيوت جيرانهم.
ورث أبناء البكر القيادة فمضت بهم في طريق ولا بد أن يطرقوه. اختلفوا كما اختلف أبيهم على أبيه. كانوا فسطاطين ثم أكثر فأكثر. قدس البعض آباءهم وتبع أخرون من سبقهم. ثم اختلف كل بعض فيما بينهم،  ففهمهم أصبح خلافهم رغم إتفاقهم على أصل ما يختلفون عليه. تداخلت الرغبات الفردية فشتتت غاية حكمة أبيهم في رفع شأنهم. داموا سنين مقدرين أو مقدسين في عيون أبناء عمومتهم. 

ولكن لكل حكمة عمر مهما كانت سديدة أو مديدة. عمر ولا بد له من أن يشيخ لأن الزمان داء ليس له دواء ولو كانت أحكم الحكم..

الجمعة، 27 يوليو 2012

دوغماتية العقلاء..

ما الذي يمسخ فكر شخص بلغ درجة عالية من العلم والإدراك لأن يكون أسير خرافات وأساطير!؟


سؤال فعلا يحيرني. فكلما وجدت له إجابة، نسختها إجابات.. نرى رجال قد بلغوا من العلم مقدارا ومن الإدراك أسرارا.. أطباء مهندسين علماء ذرة أدباء.. وبرغم ذلك تجد بعضهم يؤمنون ويسلمون لبراهما أو قسيس أو حتى ملا أو متشيخ لا يملكون من العلم أكثر من حكايات لا يدعمها العقل أو المنطق!! فرغم أنهم سموا بالفكر إلا أنهم يتنكرون له نزولا عند المعتقد!!


كيف لعالم ذرة هندي أن يؤمن بالصلاة لجوامد بأن ترفعه!؟
ولمن حاز جائزة نوبل في الكيمياء أو الفيزياء، أن يؤمن بأن الإله قد تجسد في إنسان لينقذ خطايا البشر!؟
ولمن يطور النانو، أن يعتقد أنه قد ولد من نسل الآلهة وغيره بشر أقل منه منزلة!؟
ولجراح قلب متمرس، أن يسمح لجاهل أن يقوده لمجرد أن جيناته المدعاة عن نسل الرسول!؟
ولبروفيسور يدرس الهندسة أن يعتقد برضاعة الكبير!؟
وكيف لإمرأة بلغت الحكمة أن تؤمن أنها ناقصة عقل ويجب أن تكون تبعاً للرجل حتى لو كان رضيعاً أو وضيعاً!؟ أو أنها ولدت لتخدم الرجل لا أن تعيش معه سواء!؟


نعود لنحلل غرس الطفولة لنجده أساس متين. ولكن هل هو كافي لمن فكر وتمرس خارج الصندوق لأن يكون بهذه الدوغماتية!؟ كيف إختاروا واعتادوا لاختبار كل ما يمر على عقولهم عدا فكر ولدوا عليه!! 
أم هو خيار من ليس له خيار!؟ ولماذا عدم صنع خيارهم الخاص!؟ فقد إعتادوه في علمهم وعملهم!!
أم أن معتقدهم هو الأصح!؟ لا يمكن ذلك.. لأن الأصح لا يحتمل جميع الموجودات..
أم أن السباحة مهلكة عندما تكون عكس التيار!؟


حقيقةً، أعياني السؤال وحيرتني الإجابات..!!

السبت، 21 يوليو 2012

الأشقياء المشقون..


الفكر هو برنامج الإنسان الذي يعيش بواسطته حياته. فكل مبادرة أو ردة فعل لنا تخضع للفكر الذي نعتنقه. الحرية الشخصية تكفل للإنسان الحر تغيير فكره حسب تطور حالته العقلية والمحدثات على الساحة الفكرية. في المجتمعات التي لا تقبل كثير من الإختلاف، يمكن للشخص أن يتعايش من خلال البعد عن النقاش وإخضاع أفعاله لبرنامج فكري هجين يكفل القبول في مجتمعه دون المساس بجوهر معتقده المغاير.

لا بأس بهذه الحلول إذا لم يمتهن الفكر. فكيف بمن وجد نفسه يعمل في الفكر المعتنق ثم أجبره عقله على تساؤلات نسفت إيمانه أو أجزاء كبيرة منه. أتحدث هنا عن تخصص دراسة أو عمل أو كلاهما علي ضوء فكر أو مذهب معين. لنتخيل قسيس أفنى زهرة سنوات عمره في دراسة اللاهوت ويعمل في كنيسة يقتات على أجرها هو وعائلته. ولنا قياس ذلك على ملا تخرج من قم ويقود حسينية أو مؤذن أو إمام مسجد في الخبوب تخرج من جامعة الإمام أو حتى أستاذ محاضر فيها.

لنتخيل مجازا، من درس لعشرين سنة حتى أصبح مستشارا في الصيرفة الإسلامية على أحد المذاهب الشائعة. ولكن متناقضات حيثيات كثيرة تراكمت حتى أجبرت فكره على التجدد. فأصبح لا يؤمن في الصيرفة على المذهب الذي وظف ليفتي به. شهادته وخبراته لا تساوي جناح بعوضة خارج هذا الفكر. جميع الطرق مسدودة في تغيير عمله ولا يسعفه العمر والإلتزامات الأسرية على إعادة التأهيل.

لنا أن نتصور قلة خيارات إنسان في هذا الوضع المؤسف. فأول خياراته أن يعيش التناقض بكل فلوله. في حياته في عمله في علاقاته مع أسرته ومع أصحابه وفي تربية أبناءه. تناقض يقض مضجع السوي ويغذي أصول الإنحراف. ليكون عرضة لأمراض نفسية تطغو على شخصيته وتؤثر على أبناءه وكل من يعتقد به. والأكبر طفوها على السطح والإساءة للفكر المعتنق والتشكيك به من قبل متبعيه قبل مناقضيه. وثاني خياراته هو إعلان الإنفصال فكرياً والتخلي عن جميع الإستثمارات الشخصية الفكرية والمؤهلات العملية دون وجود بديل يعوضها. وهنا يكون الفشل الشخصي والمجتمعي أكبر من أن يحتمله إنسان دون توابع وخيمة.

في كلا الخياران سيعيش مثل هذا الشقاء. سيكون علة على أهله ومجتمعه. سيخرج أبناءً بفكر معوق متناقض وزوجة حائرة وأم حزينة وأب خائب الظن. مثل هذه المعضلة تمتد لأجيال بعد هذا الشقي ولا تتوقف عند عمره. أجيال إما تحترف الإنحراف الفكري والتعدد الشخصي أو قبول الفشل كحل مشروع دائم التواجد بلا أنفه.

أظن أن من الحكمة محاولة عدم وضع من نعول في وضع مماثل. فحتى لو كان إيماننا بفكر أو بمذهب يقينياً، قد يختلف أبناءنا عن هذا اليقين فيغدون فريسة صراع نفسي رهيب قد يؤدي إلى الفشل أو المرض العقلي. عندها سيقولون ما قال المعري: "هذا جناه أبي علي" ولكنهم سيجنون على أحد..

الخميس، 23 فبراير 2012

متى تفقد السلفية المحافظة صدارتها..

ناقشنا بالمقال السابق الرفق بفرسان السلفية النجدية عندما تفقد صدارتها للمجتمع السعودي. وهو ما أثار تساؤلات وتفاوت وجهات النظر مع البعض حول واقعية هذه النظرة في ضوء مجريات النظرة الآنية للساحة السعودية. قبل الدخول في التفاصيل، أود أن أوضح أنها نظرة شخصية من خلال قراءة التاريخ ومحاولة توقع مستقبل التيارات الفكرية وتطورها. ذلك من خلال تحليل دورات الفكر أقرب منه للإحصائية كالتي تستخدم في التحليل الفني لمجموعة من البيانات التاريخية.

لنبدأ بالنظام السياسي الحاكم وهو الملكية. فالملكية تاريخاً هي أكثر الأنظمة التي توفر للعامة أكبر فرصة للعيش المرفه عنه للأنظمة السياسية الأخرى متى ما كانت في قوتها وواقعية قادتها. وعادة ما تتبنى الملكية الفكر المقبول من الشعب لتجنب أكبر قدر من الإختلاف مع الشعب لضمان إستمراريتها. وقد كان المواطنين في السعودية ذو ميول محافظة في السنوات التي بدأت من بداية الملكية السعودية حتى أحداث سبتمبر. ولكن تصادمية السلفية مع الفكر العالمي السائد أدى إلى إعادة النظر في دعم التيار المحافظ وضرورة دعم تيار يساري تقدمي يوازن المجتمع السعودي في ظل الإنفتاح على العالم الخارجي.

فالتيار السلفي النجدي المتسيد لدفة القيادة في المجتمع السعودي تيار حاد لا يقبل الآخر بمرونة تضمن إستمراريته لمدة أطول من السنوات الخمسين الماضية. ومثل هذه الحدية تجعل التيار يستفذ دورته أسرع من التيارات المعتدلة. فهو يخلق العداء ويثير المخالفين بوتيرة متسارعة عندما يصل إلى قمته ويبدأ منحناه التنازلي. فكان حتميا على السياسي البحث عن حلول سريعة بإيجاد تيار يوازن القوى ويخلق مساحة فكرية للعامة لللجوء لها كبديل جاهز. 

وكان الخيار هو التيار الليبرالي السعودي  كحل آني مستعجل. ليكون نتاج ذلك الصراع الفكري الحالي الذي نعيش مشتتين في رحى معركته. فكما لقننا التاريخ، مادام هناك توجه سياسي قوي، سيؤدي الصراع حتمياً إلى تنامي مؤيدي التيار الجديد في الناظر القريب على حساب الفكر المحافظ السائد. حتى يفوق عدد العامة ذوي التوجه الأكثر يسارية عدد مؤيدي التيار المحافظ القديم في السنوات العشر القادمة. 

قد تكون هذه النظرة جريئة للبعض المحافظ، ولكن عمر التيارات الفكرية حقيقة يضعف حجة مخالفيها كلما أمعنا النظر في التاريخ الإنساني ولا بد، في نظري، إعتبار النظرة الشاملة في نقدنا للساحة الفكرية.