الأحد، 27 ديسمبر 2009

مقومات نشأة حضارات الأمم (2/2)..

"الجزء الثاني"

ذكرنا في الجزء الأول أمثلة من الحضارات العظيمة التي نشأت في البلاد التي تملك المقومات المادية من ماء وثروات طبيعية وتعداد سكاني. ولكن ماذا عن الحضارات التي إنطلقت من البلاد التي لم تملك هذه الثروات وإنتشرت رقعتها في أرجاء المعمورة مثل الحضارة المغولية والحضارة الإسلامية؟

في رأيي أن هذه الحضارات إستعاضت عن نقصت ثروات أراضيها بقوة الأيدلوجية. حيث كانت أيدلوجية الحرب والشجاعة هي العامل الذي عوض نقص المغول للغذاء والمعادن والغذاء والعلم. ثم لم تلبث أن إستولت على بقايا الحاضرة الصينية وأراضيها الغنية بالثروات لتكون وقود حضارتها الذي غزت بها أغلب العالم القديم. ولكون أيدلوجية الحرب المتطرفة لا تكفي للإستمرارية، تبنى المغول وقائدهم العظيم جنكيز خان جوانب النقص في الإيدلوجية من علوم مادية ووسائل متقدمة في عصرها من الحضارتين الصينية ومن ثم الهندية ليقحم في الحضارة التي قاد بدايتها.

أما الحضارة الإسلامية فنشأت في أحد أقفر بقاع الأرض أو ما يسمى جزيرة العرب. ولكن قوة الأيدلوجية السماوية الكاملة كانت وقوداً كافياً في بدايتها. ثم كان مفصل التحول هو الإستيلاء على بقايا الحضارتين الفارسية والرومانية في الشام والعراق وبلاد فارس و خيرات شمال أفريقية فأمدتها بالغذاء والأعداد البشرية اللازمة لنشأة حضارتها. مما أكمل عقد مقومات قيام حضارة مستمرة سادت أغلب العالم لمئات من السنين. وكانت القيادة المخلصة ممثلةً بالنبي القائد محمد قدوة أحتذى بها أبناء هذه الأمة ثم حادوا عنها كما هي سنن من كان قبلهم من حضارات فتفتت هذه الحضارة إلى ما نعيش به من دويلات.

وتنطبق هذه المعايير على الحضارات الموشكة على الاضمحلال مثل الحضارة اليابانية الثانية والأوروبية الثائرة على الكنيسة أو المعاصرة مثل الحضارة الأمريكية الممتدة من الحضارة الأوروبية أو الناشئة مثل الحضارة الصينية الثانية.

وعليه نجد أن نشأت حضارة الأمم تستلزم وجود العوامل الرئيسية الثلاث من ظهور أيدلوجية عملية ومقومات المادية وقيادة مخلصة.
ولو جاز لنا قراءة مستقبل العالم المعاصر على ضوء هذه الإستنتاجات، لتوصلنا إلى نتائج إحتمالية في توقع الحضارات القادمة.

حالياً الحضارة الصينية الثانية واضحة المعالم بشكل كبير. فتبني الأيدلوجية الشيوعية وتعديلها لتصبح أقرب إلى الإشتراكية كان محور قيام حضارتهم المعاصرة. كما لا ينقص الصين عامل ثروات طبيعية أو أعداد بشرية ولا قيادة مخلصة. ولكن معدل إنحدار إخلاص القيادة مقابل إستغلال الثروات يمثل الخطر الأعظم في إستمرار هذه الحضارة وتوسعها. وإذا ما إجتازت هذا الخطر سيكون توسع الصينيين وإستيلائهم على الأراضي المجاورة آتي لا محالة في السنوات العشرين القادمة.

أما عن الحضارات التي في طور النشوء، فأبرزها الحضارة الهندية الثانية والتي تملك حالياً مقومات الأيدلوجية المستمدة من حضارة الفيدا البائدة والقيم التسامحية التي إكتسبتها خلال القرون المديدة الماضية. كما تقوم الهند الحالية على أحد أغنى بقاع الأرض وتملك كثافة سكانية تمثل سدس سكان الأرض الأحياء. وقد كان لغاندي أعظم الأثر في إنطلاق شرارة حضارتهم المحتملة ولكن لم يكن لها ما كان للصين في توحدهم على أيدلوجية عملية. فكان تناحر الأديان العامل المؤخر أو المنهي لهذه الحضارة الناشئة.

أما عن الحضارات المحتملة النشوء على ضوء العوامل الثلاث، فهي حضارة أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا (أندونيسيا وماليزيا) ويمكننا مجازاً القول الحضارة الإسلامية الثانية التي يمكن أن تنطلق من شبه الجزيرة العربية. ولكن أمريكا اللاتينية ينقصها الأيدلوجية العملية والجديدة التي يحفزها ظهور قيادة مخلصة. فالتصوف المسيحي لازال قابعاً في مؤخرات عقلوهم. وهو ما ينقص أيضاً جنوب شرق آسيا حيث يسيطر التصوف الإسلامي على أبناء شعبها بشكل كبير.

أما نحن فنملك المقومات المادية من الوقود الأحفوري يمثل نصف إحتياطي العالم ومعادن حبانا بها الله قد يمثل بعضها سلع إستراتيجية مماثلة للنفط تساند نشوء حضارتنا من جديد. كما لازلنا نحتفظ ببقايا أيدلوجية الإسلام الكاملة والتي حيد بها عن الصراط المستقيم عبر الزمن.
فما الذي ينقصنا لنقوم بحضارتنا من جديد؟؟

أعتقد أن الزمن هو العامل الذي سيحدد نشوء حضارتنا من عدمها. فالأيدلوجية موجودة ولكنها تحتاج إلى تقويم لتصبح عملية. ففي الماضي القريب لم تنجح أيدلوجية التطرف اليمين السائد في المملكة وبعض دول الخليج في نهوضنا كحاضرة كما لم تنجح أيدلوجية الأخوان المسلمين لعدم إخلاص قياداتها. كما لم يساعد التعداد البشري المقومات المادية في تحفيز التقدم حيث لازلنا أقلية بالنسبة لسكان الأرض. فهل نحن في الطريق الصحيح؟؟

تشير الإحصاءات السكانية أن منطقة الخليج العربي (أو الفارسي الغربي) هي أكثر المناطق نسبة في النمو السكاني. وهو ما سيساعد في تخطي عقبة التعداد المطلوب في نشأة الحضارة عبر السنين القادمة. ولكن الأيدلوجية الحالية تحتاج إلى الزمن أيضاً لتقويمها وإن كانت البوادر إيجابية في ذلك. كما أن نظام الملكية السائدة يضمن بعض الإستقرار المطلوب لنشأة الحضارة وإن كانت تحتاج إلى التقويم الذي، كما أراه، يسير إيجابياً على ضوء القيادات الجديدة لحكام المنطقة ومن خلال تزايد الشفافية ومشاركة العامة بالقرارات المصيرية. وهو ما يهيئ لظهور القيادات المخلصة التي تتبنى الأيدلوجية القويمة لاكتمال عقد مقومات الحضارة المنتظرة؟

في النهاية، عشرات السنين لا تمثل الكثير في التاريخ وقد نحتاج إلى مئة إلى مئتي عاماً أخرى قبل ظهور حضارتنا من جديد. وما علينا إلا المساهمة في تصحيح أيدلوجيتنا والتفكير الإيجابي في السعي إلى خدمة حضارتنا..