السبت، 8 أكتوبر 2011

جنة ليلى والذئب

يحكى أن سفينة عثت بها عاصفة هوجاء فغرقت غير بعيد من جزيرة نائية. مات الجميع غير طفل وطفلة في الثامنة من العمر جرفتهما الأمواج لجزيرة الأحلام. أفاقا على أشعة شمس صباحية ولم يجدا غير بعض وكثير من براءة الطفولة التي تتجسم في ملامحهما الجميلة. بكا.. صاحا ثم ناحا.. إستنجدا.. لم ترد عليهما إلا أصداءهما.. أوشك الليل على أن يسدل أستاره.. قرصهما الجوع.. فالتفتا إلى البر من ورائهما لأول مرة..

رآى أرض كالجنة التي وصفتها المعلمة عن كتاب المطالعة.. تبادلا نظرات مستنجدة لم تجد نجدة.. فسكبا دموعاً ساكنةً على خطوط داكنة خطتها الدموع السابقة على خدود أوردتها أشعة الشاطئ.. مسحاها بباطن كفيين مغطين برمل أبيض مالح أشعل وجوههما البريئين حرارة.. لم يبكا هذه المرة لأن غريزة البقاء قد أفاقت في جسدين غضين.. ألتفتا من جديد للجنة.. ووضعا يداهما في يدي بعض وتوجها صامتين إلى أقرب شجرة ليقطفا ثمرات ينعة.

مرت ليلتهما الأولى مخيفة سوداء حالكة مليئة بالبكاء المتناوب. أفاقا الصباح على زقزقة عصافير الجنة الغناء. أنستهما همهما لوهلة لم تكن طويلة، فعادا لما هما عليه قبل ذلك. جاعا من جديد فتوقف البكاء مؤقتاً لأمر أهم. رجعا لنفس الشجرة ليوفيا الغريزة حقها. توالت أيامهما ولياليها حتى يأسا من الإجابة. شيئا فشيئا، نسيا الهم ومضيا في حياة من غير بداية تسيرهما على طريق رسمه عراب. كبرا معا من غير سابق عهد أو وعد. لم يكن لهما من ماضيهما إلا القليل ممن يذكرانه من الكلام واللغة. لم يك يعرفان أي مهارة غير ذلك والقراءة وغرائز بشرية تتوالى سيطرتها حسب حاجة جسديهما ومراحله الزمنية. كانا عقلين نقيين من الأحكام المسبقة. وكانا جسدين يعرفان متى وماذا يتطلبان.

وفي غمرة الأيام، وجدا صندوق خشبي جرفه الموج لشاطئ الجنة. فرحا به أكثر من هدايا العيد. فتحاه في شغف.. فوجدا كتاب صغير يحكي رواية ليلي والذئب. أمضيا ليليتهما ساهرين حتى الصباح يقرآنه. أعادا قراءته كل ليلة حتى حفظا كل كلمة وكل حرف وكل صورة بحذافيرها. أعاداه في صندوقه وظلا يتلوا كل جملة من الرواية بالتناوب كل ليلة حتى ينام أحدهما.

شبا معا من غير ماضي يختط المستقبل. أنجبا طفلاً فآخرا فتلاه أخوة وأخوات. انشغلا في حاضر بلا سابق عهد. تناسل نسلهما وكبروا فأنجبوا أحفاد كثر. لقنوا أولادهم القراءة على ضوء الرواية الوحيدة. فهمها الجيل الأول فهم مقارب لفهمهما. حفظها الأحفاد وفهموها مع زيادات فكر من قبلهم. هرما سعيدين وماتا مبتسمين. 

ملئت العشيرة الجزيرة وأصبح التنظيم ضرورة. بدأوا بتنظيم يحكم سد الغرائز ويحفظ توازن الحياة. سنوا قوانين مستوحاة من الرواية وحكمها. كان حفظها ضرورة ملحة قبل الإنخراط في حياة الكبار. تفرغ الغالبية لتسيير الحياة وتفرغ نخبة للغوص في معاني الرواية الدفينة. تخصص من النخبة نخبة في فهم وتفنيد وشرح وتفسير عفوية ليلى وسلوك الذئب وحكمة الجدة. الغابة لم تك غريبة عما هم فيه، والجدة تشبه جدتهم الأولى، ولكن الذئب يبقى مصدراً للتأويل فاختلف النخبة في تفسير ماهيته. فهل هو شر محض أم أداة لموازنة الحياة. لم يكن الخلاف يتعدى الجدال في الأجيال الأولى ولكنه أصبح عقيدةً في متأخريها. دعى كل طرف لعقيدته بالحسنى أولاً ولكن المخالفين أوغلوا في كفرهم فوجب جهادهم. بالكلمة ثم بالفرض ثم بالسواعد.

إنقسمت العشائر إلى شمال وجنوب كل حسب عقيدته. مل العامة الحرب وساد السلام ليعطي الوقت اللازم لإيجاد حلول سد الغرائز. وعندما أوجدوا الحلول، توفر الوقت اللازم لفحص العقيدة من جديد. تبحر علماء كل شعب بما ورثوه من علم راسخ. أعاد نخبة تفسير آباءهم فشككوا فيه ليمرقوا ويهرطقوا عن المسار السابق. تفوق بعض المارقة والمهرطقة في تخصصهم وذاع صيتهم فلزم الأمر تدخل السواعد. سجن بعضهم وقتل آخرون وصلب الباقون. هدأت الفتن لجيل وبعض آخر. ظهر حكيم جديد يدعوا لدين قويم ينبذ الخلاف. كان دين بسيط يرى أن الكتاب رواية وأن الذئب مخلوق مثل العصافير التي تغرد فوق رؤوسهم في الصباح. لكن نخبة العلماء خشوا زوال خشيتهم وخفوت هيبتهم. جادلوه ليثنوه ولكن منطقه كان أبسط من أن يدحض. إلتف مستضعفين من العامة عليه فأذوا لأنهم كفروا. إلتجأ الحكيم ومن اتبعه ركن الجزيرة النائي ليسود سلام الواقع بين الأرجاء. 

هرم الحكيم ومات بسلام في ركن الجنة وتبعه أغلب صحبه الأول على مساره. تذاكروا سيرته ودرسوها أبنائهم. قوي عودهم وتقدم منطقهم فصار أكبر من يلزموه لأنفسهم دون باقي الأمم. دعوا الأمم الجنوبية لعقيدتهم ولكنهم أبوا. تناوشوا ثم تحارشوا فأصبح جهادهم فريضة على أبنائهم. إكتسحوا أغلب الجزيرة بايمان قوي يفوق إيمان أعدائهم بعقائدهم المهترئة. أصبح أبناءهم قادة الأمم ولزمهم إعادة التفكير في تسييرها. سنوا السنن وقننوا الحياة بما يحفظونه من علم. فاختلف أميران بل ثلاث على ماهية السنن الواجب فرضها وإتباعها وقبل ذلك ماهية حقيقة حكيمهم إلاهية هي أم بشرية أم بين ذلك وذاك. تصاعد الخلاف حتى قبضت السواعد على العصي وكانت الحرب من جديد. أصبحت ماهية الحكيم هي عين الخلاف ولم يعد يذكر الذئب بخير أم شر.

عمت الفوضى من جديد فمل العامة الجهاد ليصبحوا مهيئين لأي حل. انتفض أهل الفكر منهم لإعادة الدين إلى سابق عهده الزاهر. تبحروا في كتب وتفاسير المتقدمين فدعا بعضهم إلى بساطة ليلى وبعض إلى حيوانية الذئب وآخرون لتحقيق أصل الرواية وثلة دعوا إلى حكمة الجدة. كان أحكمهم يرى نفي الرواية واعتناق بساطة جديهم الباكيين على الشاطئ. جودل ثم أوذي ثم نفي. لجأ إلى الجنوب عبدة صندوق الرواية البسطاء الذين كانوا بمعزل عن الخلاف العقائدي المتكلف. استقبلوه بترحاب لأنه من الأم الشمالية المتقدمة فذاع صيته وآمن به قادتهم فتبعهم عامتهم. استمر أغلب الشمال في خلافهم وتوحد الجنوب بإيمانهم. قوي الجنوب فأصبح لزام عليهم أن يخضعوا الكفار لدينهم المنتقى.

سادوهم وأخضعوهم ودرسوهم وسنوا لهم سنن الحياة. كبرت مملكتهم وتحتم عليهم تجزأت مناطق حكمهم. تنافس امراء الممالك على التقدم والعلم. انفرد ملك بسنن صارمة واعتنق آخر حرية العامة وكان ثالث يرى أن فرصته تنمو بسنن مخالفة حتى يتميز عن أخوته. تسابق علماء كل مملكة بتفاسير عقيدة هي الأسلم لدعم السلم أو الحرب، كلن حسب الحاجة. كانت الردود على المخالفين هي الخلاف ثم أصبحت هي العقيدة من جديد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق